الممثل المقيم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق
يقصّ العراق، أو بلاد ما بين النهرين، قصة حلوة ومريرة في الوقت نفسه. كان هذه البلد، التي تُدعى اليوم العراق الحديث، مهد الحضارات في قديم الزمان ، حيث أسس السومريون والبابليون والاشوريون بعضاً من أقوى الامبراطوريات في المنطقة، بل والعالم أجمع. وخلال نشأتي في لبنان، البلد الذي ليس ببعيد عن العراق، كنت غالباً ما استمع الى المقولة العربية الشهيرة: "العراق يقرأ ما تكتبه مصر وما يطبعه لبنان". فقد درس آلاف الشباب في جامعات العراق ومشوا في شوارعه وجلسوا على ضفاف نهر دجلة لقراءة الكتب.
كان العراق يسير نحو تحقيق تنمية بشرية حقيقية وملموسة في الثمانينيات من القرن الماضي. غير أن العقوبات الدولية والحروب والاستبداد والفساد، وظهور تنظيم "داعش" في الآونة الأخيرة، حال دون ذلك، بل وساهم في إخضاع أحد أكثر الدول الواعدة في المنطقة.
بعد تحريره من تنظيم داعش، بذل العراق جهداً كبيراً لإعادة بناء أنظمة الحكم الرشيد وإعادة تأهيل البنى التحتية ودعم نسيجه الإجتماعي الغني. وفي تشرين الأول (أكتوبر) 2019، ووسط كل التحديات التي يواجهها العراق، خرج الشباب العراقي، الذي يشكّل أكثر من 60 في المائة من السكان، إلى الشوارع مطالبين بإصلاحات جذرية في البلاد، واتخاذ تدابير لمكافحة الفساد وإتاحة الفرصة لهم للتمتّع بمستوى معيشي لائق، وتوفير الوظائف والخدمات الأساسية. لتضيف جائحة فيروس كورونا لاحقاً أزمة أخرى الى لائحة الأزمات التي يعاني منها البلد.
قصة أمل
لكن العراق بالنسبة لي هو قصة أمل أيضاً. فهو يمتلك القدرة على أن يصبح من أكثر الدول تطوراً في العالم، إذ يمتلك موارد طبيعية هائلة، كالأراضي الخصبة والنفط والغاز، على سبيل المثال لا الحصر، وكما بالإمكان أن يكون تنوع البلاد الإثني والديني الفريد مصدر قوة له -لا انقسام. كما وللعراق فئة فتية منتجة تريد أن تعمل.
يُظهر العراق قصة تفوّق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، مجسّداً مثال حي لمنظمة تبذل أقصى جهدها لإعادة التأهيل في بيئة عانت من النزاعات. قصة البرنامج هي قصتنا حيث نحن فيها الملاذ الأول والشريك المختار دائماً؛ للحكومة بكل مستوياتها، للمانحين الدوليين والشركاء التنفيذيين والمجتمعات المحلية. في عام 2015، وقبل إلحاق الهزيمة التامة بتنظيم داعش، أطلقنا برنامجاً لإعادة الاستقرار للمناطق المحررة. وفي خضم المعارك، انهمكت فرق عملنا على مدار الساعة لإعادة سير الحياة من خلال إصلاح البنى التحتية وإعادة الخدمات الأساسية إلى المجتمعات المحليّة. وبعد خمس سنوات، أصبح برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مسؤولاً عن آلاف المشاريع الخاصة بإعادة تأهيل البنى التحتية، وتأمين عشرات الآلاف من فرص العمل، وبناء قدرات الحكومة ، وإطلاق مجموعة مبادرات لبناء مجتمعات أقوى وأكثر تماسكاً. لولا هذا العمل لبقي قرابة 4.6 ملايين عراقي يعانون من النزوح. يتم تمويل البرنامج من قبل 27 مانحاً، كونه يتمتّع بثقة كبيرة منحه اياها الشركاء الدوليين والحكومة والشعب العراقي. كما وأن البرنامح يتمتّع بأنه سريه الإستجابة يتأقلم مع المتغيّرات بمصداقية وخاضع للمساءلة مع هدف أساسي واحد وهو العمل نحو عراق أكثر ازدهاراً وسلاماً. إنه مكان يشعر المرء بالفخر للعمل فيه.
مواجهة جائحة كورونا في الخطوط الأمامية
ومع تفشي جائحة فيروس كورونا، عملت الحكومة العراقية وبدعم من البرنامج على تعزيز الخدمات الصحية الأساسية، لا سيما في المجتمعات السكانية الهشة والفقيرة. فأثبتنا مرة أخرى قدرتنا على إيجاد الحلول السريعة وتقديم الدعم المطلوب، بسرعة وكفاءة عالية، وبدعم ميداني كامل من فرقنا على الأرض. وبعد اجراء تقييم لعدد من المرافق الصحية في المحافظات المختلفة، تعمل فرقنا الآن على بناء غرف عزل للمصابين، وتأمين المعدات الطبية، وتزويد العاملين في قطاع الرعاية الصحية بمعدات الحماية الشخصية. كما ويبحث فريق مختبرات التسريع التابع لنا عن حلول محلية مبتكرة، للمساعدة في تعزيز الوعي وتخفيف الشعور بوصمة العار من الإصابة بفيروس كورونا عبر منصة "كورونا في العراق" على شبكة الانترنت، ومن خلال فريق من المتطوعين العراقيين. فيما تعمل لجان السلام المحلية التي أسسها مشروع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لدعم التماسك المجتمعي دون كلل ضمن المجتمعات المحلية لتسهيل العودة الطوعية للنازحين، مع ضمان ادماج العائدين في مجتمعاتهم.
وللبرنامج دور أساسي في تنسيق جهود منظمات الأمم المتحدة التنموية، كجزء من منظومة الأمم المتحدة العاملة في العراق، حيث يقود برنامج الأمم المتحدة الإنمائي العمل على وضع تصوّر لإطار التعافي من أزمة فيروس كورونا، آخذين بعين الإعتبارخطة التأهب الصحيةالتي وضعتها منظمة الصحة العالمية، وخطة الإغاثة الإنسانية لمنظومة الأمم المتحدة في العراق. . وقد باشرنا العمل على وضع خطة الإستجابة قبل إطلاق إطار عمل الأمم المتحدة من قبل الأمين العام للأمم المتحدة، ونتوقع اكتمال مسودته قريباً ليتم الإعلان عن برنامج الإستجابة التنموية للأمم المتحدة العاملة في العراق للعامين المقبلين.
تحديات كبرى
يواجه موظفونا تحديات كبرى، لكن بقليل من الشكوى. نستيقظ في بعض ليالي بغداد على أصوات صافرات الإنذار التي تحذر من الهجمات الصاروخية على المنطقة الخضراء (ما لم يوقظنا صوت الانفجار قبلها). وتتكرر الإرشادات عبر مكبر الصوت مرة تلو الأخرى: "احتموا، ارتدوا معدات الحماية الشخصية، ابتعدوا عن النوافذ والأبواب". وفي أيام أخرى، نضطر إلى إلغاء مهماتنا الميدانية في اللحظة الأخيرة بسبب هجوم الخلايا النائمة لتنظيم داعش، أو اندلاع تظاهرات تؤدي لإغلاق الشوارع.
لم يتبقى سوى عُشر الموظفين الدوليين في مجمّع الأمم المتحدة في بغداد. لدينا عيادة صحية تقدم خدمات أولية فقط، لذلك فالإصابة بمرض في ظروف كهذه مع توفّر خدمات صحية محدودة أمر يبعث على القلق بشكل يومي.
بالنسبة لنا ممن بقينا في بغداد، فنحن نعيش في حظر كلي لتحركاتنا محاطين بسور خرساني سميك مدعّم بالفولاذ يصل ارتفاعه الى 12 قدماً ويعتليه أسلاك شائكة، مع تقييد كامل لتحركاتنا، دون مطاعم أو وسائل ترفيه، غير قادرين على رؤية أسرنا واصدقائنا. هذا هو واقع حياتنا اليومية، قبل تفشي أزمة فيروس كورونا، والآن، ربما سيشعر العالم بالواقع الذي نعيشه بشكل يومي. يترافق نمط حياتنا هذا مع تضحيات نقوم بها بملء إرادتنا لمساعدة العراق على النهوض ليعود بلداً عظيماً كما كان. لكن هذه التضحيات يقدمها العاملون في الأمم المتحدة في جميع أنحاء العالم. ممن يعيشون ويعملون في بلدان تعاني من النزاعات.
طبعاً، الوضع في المجمّع ليس كئيباً دائماً. في بغداد، تزدان جدران مجمّع الأمم المتحدة، الخرسانية الكئيبة بلونها الفاتح، بجدارياتها المرسومة يدوياً لتظهر صور العراق في أيام مجده. كما ونبتسم لرؤية الابتسامة العريضة لأفراد وحدة الحراسة من الفيجييّن، الذين حُددت مهمتهم بالحفاظ على أمننا، ولا يمر أي يوم دون أن أسمع منهم عبارة "بولا مدام"!. في مكان كهذا، تعلمنا هوايات جديدة كالعناية بالحدائق الصغيرة، وزراعة الخضراوات في أصص صغيرة. كما ويعلمك هذا المكان على تمضية الوقت في إعداد أطباق أطعمة شهيّة جديدة، وكسب أصدقاء جدد، والحصول على أسر ثانية.
ما يدفعنا إلى التشبّث بالعمل في ظروف صعبة مثل هذه هو رؤية تأثير عملنا على المجتمعات العراقية. رؤية صاحب متجر يفتح متجره لأول مرة، بعد فراره من تنظيم داعش قبل أربع سنوات؛ عودة الطلاب، ذكوراً وإناثاً، الى جامعة الموصل التي كانت مقر قيادة التنظيم، ورسوم الأطفال التي يجسّدون فيها أنفسهم كأطباء ومهندسين وعاملين في تقديم الخدمات الإنسانية في المستقبل؛ كرم الضيافة دون تردد حتى من أشد الأسر فقراً عندما ندخل بيوتهم. كل هذا يعطينا شعوراً بالرضا لقدرتنا على تحقيق كل هذه النتائج رغم مواجهة صعوبات هائلة من أجل غدٍ أفضل للعراقيين.
تبدأ قصة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق بطاقم موظفيه الذين يعملون بما يتجاوز كثيراً نداء الواجب. إنها قصة ملهمة آمل أن تنتهي يوماً ما مع جلوس الشباب والشابات على شاطئ دجلة لقراءة كتبهم.