هل تتذكر عندما كنت صغيراً، متعطشاً للإبداع ومتلهفاً لاستكشاف أشياء جديدة؟ هل تذكر رؤية السماء، وصنع هيئات وأشكال من الغيوم والنجوم، أو صندوق الكرتون الذي يمكن أن تحوله بسهولة إلى مركبة فضائية أو إنسان آلي؟ وكلما كبرت، كلما أخذت أفكار المحيطين تتدخل في تشكيل خيالك وتؤثر في افكارك، وأصبح الصندوق الآن، منطقياً، مجرد صندوق.
لكون البشر لهم القابلية على اكتساب المعلومات بشكل مستمر والتكيف والتعايش مع متغيرات البيئة المحيطة، فقد صممت أذهاننا وعقولنا وفقاُ لمجموعة من المعطيات حولنا، هي البيانات، والمتمثلة بالذكريات والأفعال والتصرفات والقواعد والأعراف والتقاليد والتعليم والدين والسياسة وغيرها الكثير. جمعت هذه البيانات من محيطنا وثُبِّتت في عقولنا حتى باتت تشكل شخصيتنا وتؤثر على مسارات حياتنا واختياراتنا وفي فرص العمل.
يتفاعل ويتكامل العقل البشري مع مجموعة من القرارات المتخذة والأفعال الناتجة عن مؤثرات البيئة المحيطة. وبالنظر إلى مشكلة ضيق الرؤية في خيارات التوظيف بين الشباب في العراق بصورة عامة، لاحظنا أن عقول الشباب مشبعة بأفكار البيئة والمجتمع المحيط بهم، والتي تركز بشكل أساسي على تحديات التوظيف في العراق أكثر مما تركز على كيفية تطوير الإمكانيات والدوافع الشابة لتنمية المهارات وسبل إيجاد أو خلق فرص عمل. خلال عملنا في مختبرات التسريع الإنمائية في الاستكشاف والاستشعار حول ضيق الرؤية في خيارات التوظيف بين الشباب، تبين أن التحديات التي يواجهها الشباب ضمن مشكلة البطالة في العراق معرفة جيداً ومطروحة بالفعل على الطاولة أمام الجميع تقريباً، بما في ذلك عقول الطلبة المسجلين حديثاً في الجامعات تشبعت بنفس الأفكار والمعتقدات التي تسود في البيئة المحيطة.
نتيجة لهذه العقول المشبعة بالمعتقدات والأفكار المذكورة آنفاً حول تحديات التوظيف في العراق، تولدت أنماطاً اجتماعية قد يعيشها معظم الشباب العراقي لفترة معينة، وقد يغادرونها لاحقا عندما يطرأ على حياتهم عاملاً مؤثراً ومغايراً يقودهم في نهاية المطاف إما لتحفيز أو تثبيط إمكانيات تطوير قدراتهم. ولذلك نحن بامس الحاجة للبحث عن حلول محلية مبتكرة و متمركزة حول الحاجة الحقيقية. أجرت مختبرات التسريع الإنمائية التابعة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق نشاطات مختلفة للاستشعار والاستكشاف والتجربة باستخدام منهجيات وطرق مبتكرة كالذكاء الجمعي والإطار المستقبلي والرؤى السلوكية ومنهجية التفكير التصميمي ومنهجية التفكير المنظومي مما ادى الى ايجاد اكثر من 100 حل محلي للتحديات التنموية التي تواجه البلد.
نحن الآن بحاجة إلى أن نعرف أي نوع من هذه الحلول المحلية المئة يمكنه العمل بصورة أفضل مع هذه العقول المشبعة لمواجهة التحديات المذكورة.
محاكاة واقع الشباب والبطالة في العراق
باعتباري باحثاً عن الحلول المحلية، فقد قمت باستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي كوسيلة لمحاكاة واقع الشباب والبطالة لدعم المكتب القطري في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي داخل العراق في استشعار واستكشاف نوعية وجودة الحلول التي يمكن أن تكون فعّالة مع الفئة المستهدفة من أجل تضمينها في المشاريع القادمة للبرنامج. ومن الجدير بالذكر، عندما نلقي نظرة على الدراسات والتقارير والبيانات الموجودة التي جمعها مختلف أصحاب المصلحة والمؤثرين في الاستجابة لتحديات البطالة عند الشباب، وجدنا أن الغالبية الكبرى منهم يتشاركون في النقاط التي تتعلق بتحليل الوضع السياسي والاقتصادي في البلد، ولذلك دعت الحاجة الى ضرورة التركيز على الجانب النفسي وتأثير العوامل المحيطة على نفسية الخريجين والبنية العقلية وكيفية تفاعلهم مع فرص العمل وماهو إحساسهم الفعلي.
و بناءا على ذلك، ومن أجل معرفة تأثير البيئة المحيطة على الخريجين وقراراتهم المهنية فلقد قمنا بعمل محاكاة لعقول 710 شاب وشابة من الطلبة بمختلف الاختصاصات، الخريجين من العاطلين او الموظفين في قطاعات مختلفة في البلد، وايضا من الشباب الذين شاركوا في نشاطات وفعاليات مجموعة من الحلول المحلية المجربة التي تم تحديدها من قبل مختبرات التسريع الإنمائية في العراق. وذلك باستخدام الشبكة العصبية الاصطناعية كأحد انظمة الذكاء الاصطناعي و مستندين على بيانات حقيقية تم جمعها من خلال استبيان.
تُبنى الشبكات العصبية الاصطناعية على نسق الدماغ البشري، بعقد عصبية مترابطة كالشبكة. وهي جزء من نظام حاسوبي مصمم لمحاكاة الطريقة التي يحلل بها الدماغ البشري المعلومات ويعالجها. طريقة تدريب الشبكة العصبية الاصطناعية المستخدمة في هذه المدونة هي خوارزمية الانتشار الخلفي في برنامج المختبر الرياضي Matlab 2014b.
المحاكاة الاولى: رحلة الخريجين العاطلين عن العمل
أن طموح الشباب العراقي وتخطيطهم لمستقبلهم واختيار مسارهم المهني كأن يصبحوا مهندسين وطيارين و ومدرسين وفنانين وغيرها، يتأثر بتجارب وأفكار البيئة المحيطة، معتمداً على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فمثلاً، عندما قمنا باستخدام نظام المحاكاة الخاص بالشبكة العصبية الاصطناعية مع 210 شاب وشابة من الفئة الأولى من الخريجين العاطلين عن العمل، لاحظنا أن هذه المجموعة مشبعة تماماً وبصورة مبالغ بها بالأفكار السلبية الواقعية حول فرص العمل في العراق. حيث ان غالبية الاشخاص من البيئة المحيطة لهذه المجموعة كان يكونوا من الاهل او الكوادر التدريسية او الأصدقاء واصحاب ذوي العلاقة دائما ما يتكلمون عن وجود مشكلة الفجوة الكبيرة الموجودة بين نظام التعليم الحالي واحتياجات السوق، وعدم استقرار الوضع السياسي والاقتصادي في البلد وغيرها من المشاكل التي يمكن أن تؤثر على توفر فرص العمل كما في الرسم البياني الدائري أدناه في مرحلة الإدخال من نظام الشبكة العصبية الاصطناعية.
لقد اثر انتشار هذه الأفكار السلبية الواقعية حول فرص العمل في العراق على العينة المختارة في هذه المحاكاة مما ادت الى تكوين أنماط مجتمعية من الخريجين باذهان مشبعة بهذه الافكار مما منعهم بأخذ زمام المبادرة للمشاركة في فرص تغير حياتهم والبقاء في منطقة الراحة.
لغرض الدراسة والتحليل، تم اخذ 10 عينات من مخرجات نظام المحاكاة اعلاه للفئة الاولى. تبين أن 70 في المئة منهم لم يخوضوا تجربة التوظيف والعمل، ويفتقدون الحافز لتطوير مهاراتهم المهنية، و يفتقرون أيضا إلى مهارات العمل الأساسية وغيرها كما في الرسم البياني أدناه المأخوذ من مخرجات نظام المحاكاة. لقد ظهر لدينا نتائج غير متوقعة متمثلة بان النسبة الأكبر من هذه العينة على استعداد لقبول وظائف لا علاقة لها في مجال اختصاصاتهم الأكاديمية ومنهم من لديه الرغبة لترك الدراسة الجامعية وهنالك من سلكوا طرقاُ غير مستقيمة للحصول على دخل شهري وهو أمر غير متوقع من هذه الشريحة المتعلمة.
المحاكاة الثانية : رحلة الخريجين الحاصلين على فرص عمل
تعتبر الاختلافات بين العقول البشرية من المحفزات الرئيسية للابتكار والتطوير وهي الأساس في بناء مجتمعاتنا البشرية. لفهم فئة مغايرة من الخريجين عن الفئة في المحاكاة الأولى، قمنا ببناء محاكاة باستخدام الشبكة العصبية الاصطناعية لفئة الخريجين الحاصلين على فرص عمل مستندين على 129 عينة ممن قاموا بإجراء الاستبيان، فوجدنا أن هذه الفئة كانت لديهم بيانات نمو مماثلة للمحاكاة في الحالة الأولى أثناء طفولتهم ودراستهم وحياتهم الأكاديمية، بما في ذلك البيئة الاقتصادية والتأثير السياسي. بعبارة أخرى، فإن فئة الخريجين الحاصلين على فرص عمل قد مروا بحلقة من الظروف المماثل، لكنهم عاشوا تجربة حياتية ساعدتهم في تغيير واقعهم لكسر هذه الحلقة كي يصبحوا أكثر انفتاحاً للتغيير وعلى معرفة بكيفية توظيف مهاراتهم المهنية بما يتناسب مع حاجة السوق فقد مكنهم هذا من الحصول على فرصة عمل .
إن برامج التدريب والتبادل الثقافي والورش والفعاليات والمؤتمرات والنشاطات التطوعية التي مرت بها هذه المجموعة كانت عناصر اساسية ساهمت في كسر حلقة الظروف المماثلة. إن هذه العناصر لها صفات وخصائص قوة تم تحديدها في الرسم البياني الدائري كمدخل ثانٍ لنظام الشبكة العصبية الاصطناعية.
تعلمنا من هذه المحاكاة أنه يمكن للشباب الذين تشبعت عقولهم بالأفكار السلبية الواقعية و المبالغ فيها عن تحديات التوظيف في العراق (العينة من المحاكاة الاولى) أن يوجهوا للخروج من منطقة الراحة وعيش فرص حياتية مهنية جديدة. فمن خلال هذا الطرح ، يمكن أن تكون هذه العينة أكثر انفتاحاُ وتقبلاً لتطوير الذات وسيكونون فهماً جيداً لاحتياجات السوق ومتطلباته. وبذلك تزداد فرصهم في التوظيف والعمل، وبالتالي الحصول على وضع مالي مستقر، وعقول أكثر تحفيزاً للتطوير الذاتي. وهذا ما لاحظناه عندما قمنا بمحاكاة 129عينة من الخريجين العاملين وقد اخترنا 10 عينات لغرض الدراسة كما في الرسم البياني أدناه. عندما تعرضت هذه الفئة الى تجارب ايجابية ( عناصر كسر حلقة الظروف المماثلة، قادتهم الى سبل النجاح في مستقبلهم المهني والوظيفي. ومن الجدير بالذكر ، بأن هذه العناصر ذات التأثير الإيجابي على حياة هذه الفئة تمثل مجموعة الحلول المحلية التي تم تحديدها في مختبرات التسريع الإنمائية كحلول مستجيبة لتحديات البطالة لدى الشباب.
المحاكاة الثالثة : رحلة تطبيق الحلول المحلية
بعد تجربتي المحاكاة الأولى والثانية أعلاه، استطاع فريق مختبرات التسريع الإنمائية من تكوين فهماً جيداً للحلول المحلية التي يمكن من خلالها أحداث تأثيراً ايجابياً في عقلية الشباب المشبعة بالأفكار السلبية الواقعية المبالغ فيها حول تحديات التوظيف في العراق. ولذلك، قرر الفريق باختيار سبعة حلول محلية تم إيجادها من قبل نشاطات مختبرات التسريع الانمائية لتخضع للمحاكاة من أجل دراسة تأثيرها على المسار المهني والبيئة المحيطة لعينة الخريجين العاطلين عن العمل من المحاكاة الاولى.
تم استخدام خصائص ومواصفات الحلول المحلية التي تم تحديدها انفاً كمدخلات ثانية في نظام محاكاة الشبكة العصبية الاصطناعية. هذه المواصفات والخصائص مماثلة لخصائص ومواصفات الفرص الحياتية من المحاكاة الثانية والتي تشمل: بيئة مناسبة ومحفزة على الإبداع والمنافسة وترتكز على العمل الجماعي ،مادة تدريبية تفاعلية حديثة ومبتكرة، منهج تطبيقي يلائم الحاجة الحقيقية للسوق وبيئة العمل، بناء شبكة علاقات وتقوية الروابط بين مختلف القطاعات مع التنوع الثقافات والجنسيات، تنفيذ التدريب من جهة رصينة متابعة بخبرات كفوءة، يكسب للمبتدئين والخريجين الجدد فرصة لاكتساب خبرات جديدة، التدريب من الشباب الى الشباب، و المتمحورة حول احتياجات الإنسان، استخدام التقنيات والتكنلوجيا الحديثة.
نتج عن هذه المحاكاة تغييرات مفاجئة في عقول الخريجين العاطلين عن العمل من المحاكاة الاولى، حيث بينت إمكانية توفر فرص أكبر لتطوير الذات في ظروف معيشية مشابهة لعينات الفئة الاولى كما هو موضح في الرسم البياني أدناه.
المخرجات
عند التطرق إلى مفهوم الإبداع على سبيل المثال، فلا يمكننا ان نجزم ان هنالك أشخاص ليسوا بمبدعين، ولكن يمكننا القول بأنهم نسوا كيف يمكنهم أن يكونوا مبدعين. إن التوظيف هو نظام مماثل لذلك، إذ انه مترابط مع الانظمة الحياتية الأخرى. يمكن تنظيمه واستيعابه من خلال المجتمع ككل وليس من خلال الجهود الفردية كما نظن، فهو ينمو و يستوحى من قبل البيئة نفسها كأي نظام آخر.
إن 71 في المئة من الحلول المحلية التي تم تحديدها من قبل مختبرات التسريع الانمائية التي تساهم في مواجهة مشكلة الشباب والبطالة في العراق هي حلول غير مادية متمثلة بالبرامج التدريبية ومشاريع بناء القدرات ومبادرات شبابية، ومسابقات، وبرامج التدريب الصيفي و برامج المعايشة الوظيفية وحملات التوعية الافتراضية وغيرها وكلا حسب خصائصه. لقد ساعدت نتائج هذه المحاكاة في زيادة كفاءة عمل المختبر خلال الاستشعار والاستكشاف وتنمية الحلول المحلية، وأثبت ايضاً أن الحلول المحلية التي تم تحديدها آنفاً سيكون لها تأثيراً على المدى المتوسط والبعيد. وقد ساعدت نتائج المحاكاة في وضع معايير الاختيار للبحث عن الحلول المحلية القادمة وفي انشطة الاستكشاف والتجربة داخل مشاريع المكتب القطري للبرنامج. كما أنها، وجهت عقولنا للتركيز على الجانب النفسي الذي يمكن أن يضيف الكثير الى نشاطاتنا المخصصة لإيجاد الحلول المحلية من خلال ممارسات التصميم المتمحور حول الإنسان وأدوات الذكاء الجمعي. وسيكون لهذا التوجه اضافة مثمرة في مشروعنا القادم حول التعلم المدمج في العراق مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي المتمركز حول طرائق التدريس في الجامعات والذي يركز على الطلبة والاساتذة.
من خلال ذلك، نحن نتعلم تحقيق الأثر، ونفهم تأثير تفاصيل البيئة النامية من حولنا على قراراتنا واهتماماتنا والتوظيف والابداع. ولان عقولنا دائمة الحضور ومستمرة في تقبلها للمدخلات المتغيرة من البيئة المحيطة. فهي مستعدة للنمو من جانب او ان تخلق المحددات التي تحد من حدوث فرص غير متوقعة يمكن أن تحدث في حياتنا من جانب آخر.